قصة حب الشاعر المعروف احمد رامي (1892 ـ 1981) ونجمة الشرق ام كلثوم (1904 ـ 1975) معروفة في ادبيات الشعر والغناء العربيين، فقد ظل رامي الشاعر الاثير لسيدة الغناء العربي بعد لقائهما الاول وقد عاد من باريس حيث ارسل لهناك لكي يتابع دراسته في علم المكتبات، وهي الرحلة التي ادت به فيما بعد لتقديم ترجمة عربية لرباعيات الخيام. وكان الناقد المعروف محمد مندور قد وصف قصة العلاقة بين الشاعر والمغنية بانها قصة تشبه الاساطير، فقد كتب لها رامي 137 اغنية من بين 383 اغنية قدمتها في مشوارها الفني. علاقة رضيت فيها ام كلثوم من احمد رامي بالشاعر ورضي الاخير ان يكون درويشا في محراب غنائها، فقد اسرت هذه الفلاحة ذات الصوت الجميل كيان الشاعر منذ ان شاهدها لاول مرة في مسرح حديقة الازبكية حيث غنت له اغنيته التي قدمها لها ابو العلا محمد لكي تغنيها وصار اسمه علي كل لسان.
قصة حب وعلاقة رامي وام كلثوم هي عنوان رواية صدرت في فرنسا من تأليف سليم نسيب وهي التي صدرت في عنوانها الاصلي الفرنسي بعنوان ام كلثوم وترجمت للانكليزية تحت عنوان احببتك لاجل صوتك ، وهي رواية تاريخية يحاول فيها الكاتب احياء الحياة الادبية والغنائية في مصر وذلك في عشرينيات القرن الماضي حتي وفاة الفنانة التي كانت ملهمة الشاعر، ورامي الذي نتعرف عليه في الرواية قد لا يكون هو نفسه الذي نقرأ عنه في الحقيقة، والكاتب هنا يحاول ان يلعب علي فكرة الحب الكامن في قلب الشاعر والمغنية وبناء خط درامي يسمح له بقراءة توترات الداخل النفسي عند رامي وتقلبات الواقع السياسي، فمنذ ان عاد من فرنسا وعمله في دار الكتب الوطنية ورامي قريب ومقرب من ام كلثوم وله كرسي محجوز في حفلاتها الغنائية، ولكن رامي الذي نشاهده هنا يبدو مستلبا او يعيش حالة من العشق الصوفي يريد ان يقول ما في قلبه ولكنه خجول وعاجز عن الكلام او يتحرج من البوح، الرواية هي عن البوح والصوت الصامت في داخل احمد رامي الذي وحد طريقه للتعبير عنه من خلال الاغنية والقصيدة. وهو حالم حتي عندما يتزوج متأخرا من فتاة متعلمة ولكنها تتركه بعد ان لم تعد تحتمل غيابه عن البيت. وهي مكتوبة علي طريقة السيرة الذاتية، الراوي هو نفسه احمد رامي نلتقيه وهو يعود من فرنسا حيث يقدمه محمد عبدالوهاب الي ام كلثوم االتي طلب منها ان تغني له الاغنية التي كتب كلماتها واختارها الشيخ ابو العلا محمد لكي تغنيها، وهي القصيدة التي نشرتها مجلة (السفور) أثناء وجوده في باريس (الصب تفضحه عيونه) فأعجب بها الشيخ أبو العلا محمد الذي كانت تربطه علاقة ود وصداقة بأسرة رامي فأخذها ولحنها، وأصبح الصوت والقصيدة حديث كل الناس في مصر.
يقودنا احمد رامي/ الكاتب في رحلة في عالم الغناء والفن وقطعة من تاريخ مصر، احمد رامي نتعرف عليه باسمه الاول في الرواية، يقدم لنا من خلاله الكاتب شهادة عن تاريخ مصر في خمسين عاما جسدتها ام كلثوم وملهما الشاعر احمد رامي وعبرت اغانيها عن تقلبات الزمن والمزاج الشعري في مصر والعالم العربي، والرواية او الشهادة التاريخية هي عن ام كلثوم، او سيدة الشرق او اي من الاسماء التي تحب ان تستخدمها لوصف هذا الصوت الذي تربع علي عرش الغناء العربي واطرب وشنف اسماع العرب من المحيط من الخليج، وتسابق الشعراء والملحنون في تقديم اجمل ما لديهم من اشعار. احمد رامي الذي تقودنا خطاه في هذه الرواية هو العاشق الولهان الذي يتعذب علي القرب والبعد، والذي رضي بموقع المتفرج القريب من ملهمته، والكاتب يحاول ان يلعب علي هذا الخيط لينقل الينا توترات العلاقة وتفاصيل اللقاءات الحميمة والايام التي كان يقضيها وهو يكتب لها الاغاني ويذهب الي بيتها الذي كان يتحول احيانا لعزبة لكثرة ما فيه من الزوار والاقارب ولكن الاقرب اليه من حاشية ام كلثوم كانت سعدية التي ظلت حاملة لاسرار الغرام والود، وعندما كبرت شعر احمد رامي بانه كبر هو الاخرـ ام كلثوم رغم ودها وحبها لاحمد رامي ظلت هي الممسكة بزمام الامور وهي التي كانت بقوة شخصيتها قادرة علي فرض الامور والاوامر ولكن في لخظات ضعفها خاصة في مرضها وخوفها من العملية سواء تلك التي اجرتها اولا في مصر وثانيا في امريكا حيث كانت تحرص علي ان يكون احمد رامي الي جنبها وقد طلبته من خلال محمد عبدالوهاب عندما مرضت اول مرة. سليم نسيب يعيد تركيب الحياة وتاريخ مصر منذ الثورة حيث يقسم روايته علي مفاصل تاريخية تبدأ من عام 1924 وتنتهي عام 1975 وعبر هذه العقود الزمنية نقرأ تاريخ مصر متشابكا مع الاغنية والقصيدة وخلال هذه الفترة شهدت مصر والعالم العربي تطورات واحداثاً سياسية هامة، من الثورة المصرية وسعد زغلول حيث نتعرف علي البنت الفلاحة المترددة التي لا تعرف اصول التعامل الاجتماعي مع الطبقات الراقية، خاصة عندما دعاها زغلول وحرمه صفية لمأدبة عشاء وكان عليها التدرب والاستعانة باحمد لكي تتعلم اصول اللياقة الاجتماعية، ولكن ام كلثوم بعد صعودها القوي تصبح واثقة من نفسها قادرة علي التصرف والمرور عبر الاسلاك السياسية والتماهي او التكيف مع الاوضاع السياسية فهي وان لم تكن جزءاً من القصر الا انها غنت له وعندما سقط النظام الملكي كانت ام كلثوم في المصيف في الاسكندرية، عندما اعلن الضباط الاحرار انقلابهم وخلعوا الملك فاروق، وعندها اتصلت باحمد رامي الذي بقي في القاهرة تطلب منه ان يتدخل ويتدبر الامر كي تعود للقاهرة لان اعضاء النخبة العسكرية لم تتعرف عليها. ويشي السرد الروائي بأن النظام الجديد تجاهل اولا امر ام كلثوم باعتبارها من مخلفات النظام الملكي السابق وشيئا فشيئا عادت لام كلثوم مكانتها بسبب الظروف السياسية التي واجهت النظام خاصة نظام عبدالناصر، نعرف انها شعرت بنوع من الهامشية لان النظام لم يذع اغانيها ولكنها عادت بعد ذلك حيث طلب منها النظام الجديد تدشين اذاعة صوت العرب من القاهرة تماما كما دشنت في بداية مشوارها الفني اذاعة القاهرة. ام كلثوم ستصبح بعد هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967 صوتا مهما لاعادة الثقة بالنفس سواء للنظام الذي تحطم مشروعه الوحدوي والرأي العام العربي الذي شعر بالصدمة علي الهزيمة السريعة لجيوش الدول العربية، ستغني ام كلثوم في كل العواصم العربية من الخرطوم و لاءاتها الثلاث مرورا بطرابلس الغرب وتونس والرباط والكويت وفي عمان العاصمة الاردنية حيث غنت هناك انا فدائيون وجمعت تبرعات لازالة آثار العدوان ودعم المجهود الحربي، وهي تبرعات وان بدت كبيرة الا انها لا تشكل الا جزءا بسيطا من الجهود هذه. لكن ما يهم في هذا السياق ان ام كلثوم استعادت زمام المبادرة واصبحت صوت الامل بعد ان اطلق عليها البعض بانها افيون الجماهير وانها تقوم بتخديرهم. يحافظ نسيب في تقديمه شهادة احمد رامي عن عصره وعن نجمته علي بناء نوع من التوتر في السرد الروائي ونقل العوالم الداخلية المنفعلة داخل الشاعر في غربته عن واقعه ووحدته، وهو هنا لا يفصح عن حبه الا بقدر فهناك خيط رفيع بين الود والصداقة والوله ولكن رامي يبدو شخصا مساقا نحو هذه العلاقة ولا يتوقع اي شيء منها، هناك قناعة وحرص. وفي النهاية طغت العلاقة علي حياته الزوجية حيث هجرته الزوجة مع الاولاد لبيت عائلتها ولم تنفع محاولاته لارجاعها وفي النهاية يتقبل الواقع، وام كلثوم التي غنت له في عرسه لم تعلق كثيرا علي نهاية الزواج. وفي المقابل فان زواج ام كلثوم من الدكتور الحفناوي الذي كان الطبيب الخاص لها وزوجها لم يحدث اي رد فعل عند رامي، هناك اقتناع من كلا الطرفين من البداية: رامي وام كلثوم ان لا امل لهما معا كزوج وزوجة ولهذا حافظ كل منهما علي دوره واتقنه، وفي النهاية يكون رامي هو من يودع ام كلثوم في لحظاتها الاخيرة وليس الحفناوي الذي كان ينتظر خارج الغرفة، ويشي الخيط الروائي بأنه في الايام الاخيرة من حياة سيدة الغناء العربي اختفي الخيط الذي يميز بين دور الزوج والصديق، فقد اصبح احمد رامي الذي اقعده المرض جزءا من بيت وحياة ام كلثوم، والاخيرة في العام الاخير سافرت في جولة غنائية طويلة تاركة احمد رامي وراءها والذي كان يتابع اخبارها من خلال الاذاعة التي كانت تنقل حفلاتها، ما يميز هذه الرواية انها ترسم مسيرة نجمة من خلال عيون ولهانة لشاعر، ولهذا فهي تقوم باحياء الزمن والاصوات القديمة والجماهير التي كانت تخرج بالالوف لاستقبالها ورش الورود والعطور في طريقها وهي رواية تقدم كيف اسرت مصر ممثلة بأم كلثوم وعبدالناصر قلوب ابناء العالم العربي. احمد رامي كان عاملا في بناء النجومية ولكن القصيدة تحتاج لصوت اثير ولحن جميل وهو هنا، اي الكاتب، يقدم لنا شيئا عن علاقة ام كلثوم بملحني زمنها بدءاً من الشيخ ابو العلا وتعاونها مع محمد القصبجي واخيرا رياض السنباطي الذي لحن لها معظم اغانيها، اضافة لمحمد عبدالوهاب. ظل احمد رامي يعمل في دارالكتب المصرية حتي تقاعده وكرمه السادات مع انه هنا في رواية احببتك لاجل صوتك لم يكن راضياً عن موقف السادات عندما ارسل شخصا يمثله في جنازة اشهر مغنية عربية ويقول انه لو كان ناصر حيا لحضر شخصيا الجنازة ولكن ذلك هو عبدالناصر وفرق بينه وبين السادات. علي انسياب السرد وتداعي الذكريات فان الكاتب لم يكن قادرا علي التخلص من لعبة التسييس وتعليق سياسي علي الاحداث، ويبدو ان هذا متعلق بمهنة الكاتب الصحافية حيث عمل مراسلا لصحيفة ليبراسيون وغطي الاحداث اللبنانية واحداث السياسة العربية. لكن الرواية وهي ترسم لنا تحولات ذلك الزمن اكدت علي ذلك الرباط المقدس بين الشاعر والمغنية، فاحمد رامي ظل مستشارها الاول وكان المستمع الاول لقصائدها ولم يغضب يوما علي اي تعديل مارسته ام كلثوم علي قصائده، وهو الذي كان كل يوم اثنين يقوم بزيارتها ومناقشة كتاب معها حيث قدمها للشعر العربي الكلاسيكي والثقافة الشعبية القاهرية، خاصة انه كان قريبا من مصادرها في طفولته حيث ولد في حي الناصرية قريبا من حي السيدة زينب. كان عمر ام كلثوم لا يتجاوز السادسة عندما بدأ احمد رامي ينشر اشعاره، وعندما التقاها كان قد نشر ثلاث مجموعات شعرية اولاها صدرت عام 1918 وثانيتها كانت عام 1920 والثالثة عام 1923 وقد حظيت مجموعاته الثلاث بتقريظات من كبار شعراء تلك الفترة، احمد شوقي، وخليل مطران وحافظ ابراهيم، وعندما طلبت منه ام كلثوم ان يكتب لها كلمات اغانيها كان يضحي بانجازه الشعري خاصة ان كتابة الاشعار للاغاني لم تكن مقبولة باعتبار السمعة المرتبطة بالمغنية، وكانت اولي اغانيه التي كتبها لها بعد عودته من باريس (خايف يكون حبك لي.. شفقة) حيث قدمتها أم كلثوم إلي صبري النجريدي طبيب الأسنان الذي كان يعيش في طنطا ويهوي تلحين الاغاني وقدمها لها بعد خمسة أيام وغنتها أم كلثوم وحققت الاغنية نجاحا كبيرا اكدت علي اهمية العلاقة الفنية بعد ان تعلم احمد رامي من درس صبري النجريدي الذي أغلق عيادته في طنطا وجاء ليقيم في القاهرة وطلب الزواج من أم كلثوم فصدته بقسوة ويقول رامي عن ذلك عندما طلب النجريدي الزواج من أم كلثوم صدمته فشعرت بأنني قرينه فقد أشار إلي بفعلته إلي ما لا ينبغي أن أفعله . قصة احمد رامي مع ام كلثوم غطت خمسين عاما من حياة مصر، خلالها كانت ام كلثوم قادرة علي افراغ الشوارع، وكان ناصر يعد لالقاء خطاباته بعد حفلاتها الاذاعية، ومثل ناصر جمعت الملايين في جنازتها، فلاحان من مصر استطاعا ان يوحدا قلوب العرب، في الوقت الذي فشل فيه مشروع ناصر فانه لا زال مؤثرا في وعي الجماهير، وكذا ام كلثوم التي لا تزال اغانيها ترن في المقاهي من بيروت، الي القاهرة ودمشق ومبيعات اغانيها تتفوق علي اشهر المغنين. احببتك لاجل صوتك هي استعادة تاريخية سردية لعلاقة شاعر ومغنية وهي تقدم اضاءة جديدة للمهتم الاوروبي. بالنسبة للقاريء العربي فالقصة معروفة. وكما يعلق الفنان عمر الشريف قائلا في الشرق، يوم دون ام كلثوم لا لون له .
سليم نسيب يعيش ويعمل في باريس منذ عام 1969، وكتب رواية اخري بعنوان عاشق في فلسطين عن علاقة سرية بين مصرفي فلسطيني - لبناني البرت فرعون وغولدا مائير رئيسة الوزراء الاسرائيلية السابقة وله كتاب اخر بعنوان جبهة بيروت وعمل مراسلا لصحيفة ليبراسيون وكتب في لوموند دبلوماتيك .
العنوان الأصلي للمقال: رواية تاريخية تعيد رسم علاقة ام كلثوم بأحمد رامي في حب مستحيل
[img][/img][img][/img]